إسرائيل- المحكمة العليا تشعل فتيل أزمة داخلية في خضم الحرب

في خضمّ أتون الحرب الضروس التي يشنّها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على قطاع غزة المحاصر، فاجأ قرار المحكمة العليا الإسرائيلية بإلغاء "قانون المعقولية" الأساسي نتنياهو وحلفاءه المقرّبين، ليُعيد إلى السطح شبح الانقسام المجتمعيّ والسياسيّ العميق الذي عانت منه إسرائيل على مدار الأشهر التي سبقت عملية "طوفان الأقصى" البطولية.
بهذا القرار، قضت المحكمة العليا على آمال نتنياهو العريضة في توحيد الصفوف المتصدعة بين الفصائل الإسرائيلية المتناحرة تحت قيادته، وتحويل الأنظار نحو الحرب الدائرة في غزة، سعيًا منه لكسب المزيد من الوقت للتخلّص من التداعيات الخطيرة لهذا القانون المثير للجدل، والذي أحدث شرخًا عظيمًا في المجتمع الإسرائيليّ منذ إقراره في الكنيست في شهر يوليو من العام المنصرم.
إنّ فكرة إلغاء القوانين من قِبل المحكمة العليا ليست أمرًا مستحدثًا، لكن الجديد في هذا السياق هو أن القانون الذي تم إلغاؤه ليس مجرد قانون عاديّ، بل هو "قانون أساس"، والقوانين الأساسية في النظام القانوني الإسرائيليّ تُعتبر بمثابة الدستور، وذلك لكون إسرائيل لا تمتلك دستورًا مكتوبًا أو مدوّنًا، وهي تعوّض هذا النقص من خلال القوانين الأساسية التي تتمتع بقوة المواد الدستورية. إضافة إلى ذلك، يتعلق هذا القانون تحديدًا بصلاحيات المحكمة العليا نفسها، ويهدف إلى تقويض هذه الصلاحيات، بما في ذلك الحدّ من سلطات المحكمة في إلغاء القوانين التي يسنّها الكنيست.
وعلى الرغم من أن قرار إلغاء القانون قد صدر بأغلبية ضئيلة، حيث صوّت ثمانية قضاة من أصل خمسة عشر لصالح الإلغاء مقابل معارضة سبعة قضاة، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن المحكمة العليا كانت منقسمة على نفسها بشكل كامل بشأن هذه القضية. ففي وقت سابق، أقرّ اثنا عشر قاضيًا من أصل خمسة عشر في المحكمة العليا الإسرائيلية بحق المحكمة في مراجعة القوانين الأساسية والتدخل فيها، وذلك في حال رأت المحكمة أن الكنيست قد تجاوز صلاحياته الدستورية بسنّ قوانين تحيد عن سلطته التأسيسية.
يُضاف إلى ذلك أن ثلاثة قضاة من بين السبعة الذين عارضوا قرار المحكمة، كانوا يرون إمكانية تضييق نطاق تفسيرات "قانون المعقولية" بدلًا من إلغائه بشكل كامل.
قد يلجأ نتنياهو إلى إثارة الفتن واستفزاز إيران من خلال عمليات عسكرية محدودة، ولكنها مؤلمة، الأمر الذي قد يؤدي إلى تصعيد الأوضاع وتدهورها بسرعة في المنطقة، وهو ما قد يمنحه ذريعة لتعطيل العمل بالقوانين وتجميد الحياة العامة بحجة اتساع رقعة الحرب.
إنّ مفهوم "المعقولية" نفسه ليس جديدًا، بل هو راسخ في القوانين ويعود في أصوله التاريخية إلى الحقبة الرومانية. وفي القانون الدستوري والإداري، يُعتبر "المعقولية" معيارًا قانونيًا يشير إلى ضرورة أن تكون الإجراءات والقوانين "معقولة"، أي متوافقة مع روح الدستور والاختصاصات المنصوص عليها.
وبذلك تضمن المحكمة العليا، من خلال هذا المعيار، ألا يسنّ البرلمان قوانين تتعارض مع الدستور أو روح المجتمع أو قيم الدولة أو طبيعتها. ومن هنا تنبع الأهمية الكبيرة لمعيار المعقولية في عمل المحاكم الدستورية.
وفي حالة دولة الاحتلال، يمثل هذا المعيار أداة لكبح جماح الكنيست (البرلمان) والحكومة، ومنعهما من إصدار أي قوانين أو توجيهات تتعارض مع الأفكار والقيم التي قامت عليها إسرائيل. وهذا هو المدخل تحديدًا الذي كان نتنياهو يسعى لاستهدافه من خلال "إصلاحاته القضائية" التي أدخلت البلاد في نفق مظلم.
والمفارقة العجيبة تكمن في أن هدف نتنياهو من استهداف هذا المعيار القانوني كان حماية نفسه فقط من خلال تقييد سلطات المحاكم، وهذا هو "بيت القصيد" الذي أدى إلى الانقسام العميق في المجتمع الإسرائيلي والذي سبق عملية "طوفان الأقصى".
فنتنياهو، مدعومًا بائتلافه اليميني المتطرف، كان يرى أن المحكمة العليا تقف حائلًا أمام قدرته على إصدار قوانين تمكنه من حماية نفسه من المحاسبة بتهم الفساد الموجهة إليه، وإن ادّعى غير ذلك. ولذلك كان يضغط بكل قوته لإلغاء سلطة المحكمة العليا في استخدام حجة المعقولية لإلغاء أي قوانين يتمكن من تمريرها في الكنيست، بهدف تحصين نفسه من المساءلة القانونية والمحاكمة بتهم الفساد خلال فترة وجوده في السلطة وبعدها.
أما حلفاؤه في اليمين المتطرف، فكانوا يدعمون هذا التوجه لدى نتنياهو سعيًا لتحقيق مكاسبهم الخاصة من خلال إصدار القوانين التي يصبون إليها، مثل قوانين ضم الأراضي المحتلة وحماية المستوطنين، واستغلال حاجة نتنياهو إليهم لتمرير ما يريدون من تشريعات ومناصب عليا. وبالفعل، تمكن نتنياهو وائتلافه اليميني من تمرير قانون أساسي يلغي حجة المعقولية، بل إنه حرص على إضفاء صفة "قانون أساسي" على هذا القانون، بهدف جعله دستورًا محصّنًا.
وقبل معركة "طوفان الأقصى" بشهر واحد، تم تقديم طعن في هذا القانون الأساسي أمام المحكمة العليا من قِبل معارضي نتنياهو. وأثناء المداولات القانونية، اندلعت الحرب الحالية، وكان نتنياهو يعتقد أن استمرار الحرب على غزة قد يصرف الرأي العام والمحكمة العليا في الوقت نفسه عن محاولة إلغاء هذا القانون.
لكن المحكمة العليا فاجأت نتنياهو في خضمّ الحرب، ولم تلتفت إلى الظروف المحيطة، وأعلنت في الأول من العام الحالي 2024 قرارها المدوّي بإلغاء هذا القانون الأساسي الذي يلغي حجة المعقولية. أي أن المحكمة العليا، ويا للمفارقة، ألغت القانون الذي يسلبها القدرة على إلغاء القوانين.
هذه الهزة القوية تأتي لنتنياهو ولمعسكره في المحكمة العليا في وقت يعتبر فيه أضعف ما يكون في الشارع الإسرائيلي، وذلك بعد الإخفاقات المتتالية التي مني بها الجيش الإسرائيلي وحكومة نتنياهو في قطاع غزة.
وحتى عندما حاول نتنياهو التهرب من هذه الإخفاقات العسكرية المتلاحقة من خلال التوجه خارج غزة ومحاولة توسيع نطاق الحرب، كما يتضح من خلال اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الشيخ صالح العاروري، والذي حدث في اليوم التالي مباشرة لقرار المحكمة، ثم محاولة تأجيج الأوضاع في المنطقة، بهدف توسيع ميدان الحرب، فإن الراجح أن هذه المناورات لن تغطي على هذه الإخفاقات المتتالية في الوعي الشعبي والسياسي الداخلي الإسرائيلي، أو على الآثار الزلزالية التي أحدثتها دراما المحكمة العليا.
يبدو نتنياهو يائسًا ويحاول اللعب بكافة الأوراق المتاحة لحماية نفسه من السجن، فقد أدرك تمامًا أن خصومه ومعارضيه أصبحوا الآن أشدّ نقمة عليه، وأن السكاكين تُشحذ بانتظار سقوطه، لتنهال عليه الطعنات ولتذبحه سياسيًا من قِبل جميع القوى المعارضة له دون هوادة. ولذلك، فإنه لا يجد أمامه سوى الهروب إلى الأمام على المستويين الداخلي والخارجي.
فعلى المستوى الداخلي الإسرائيلي، هناك احتمال أن يحاول نتنياهو تحدي قرار المحكمة العليا من خلال إصدار قانون يوقف تنفيذ القرار مؤقتًا، وذلك ريثما يتم تغيير رئيسة المحكمة العليا المنتهية ولايتها، إستر حيوت، المعروفة بمعارضتها لنتنياهو، ليتمكن من تعيين شخص موالٍ له في المحكمة العليا، وبالتالي ينجح في قلب القرار.
وقد بدأ حليفه في الحكم، حزب "شاس" المتطرف، في اتخاذ هذا الإجراء بالفعل. إلا أن هذا التوجه يلقى معارضة من حليف نتنياهو في حكومة الحرب، بيني غانتس، ولذلك فقد يكون صعب المنال في الوقت الحالي، وقد يؤدي إلى تفكك حكومة الحرب لاحقًا.
أما على المستوى الخارجي، فهناك احتمال كبير في الأفق أن يحاول نتنياهو استغلال عملية اغتيال الشيخ صالح العاروري لتوسيع رقعة الحرب الحالية وتحويلها إلى حربٍ إقليميةٍ، دون انتظار رد فعل حزب الله. فبعد خطاب حسن نصرالله الأخير، بدا واضحًا أن الحزب لن يلجأ إلى الرد بتوسيع نطاق الحرب بعد ما حصل.
ولذلك، فإن نتنياهو قد يسعى إلى استفزاز حزب الله واستفزاز إيران من خلال عمليات عسكرية محددة وموجعة، الأمر الذي قد يؤدي إلى تدحرج كرة الثلج وتضخمها بسرعة في المنطقة، وهو ما قد يمنحه فرصةً لتعطيل العمل بالقوانين وتجميد الحياة العامة بالكامل بحجة اتساع ميدان الحرب.
هذا الأمر في غاية الخطورة، ويعتبر مقامرةً ثقيلةً من نتنياهو، لدرجة أن البعض قد يرى هذا السيناريو غير منطقي. لكن الأشهر الثلاثة الماضية علمتنا أنه لا شيء يمكن استبعاده على نتنياهو وتيار اليمين المتطرف الذي يدعمه، ولا سيما تيار الصهيونية الدينية الذي يبحث عن الحرب العالمية ضمن هوسه بفكرة الحرب الدينية والأفكار الخلاصية التي يحملها ويبشّر بها اليوم.
وبغض النظر عن مآلات الأمور على المدى القصير، إلا أن ما يمكن قوله هنا هو أن قرار المحكمة العليا الإسرائيلية قد صبّ الزيت على نارٍ تكاد تحرق المجتمع الإسرائيلي بالكامل.
وسواء كان الحل الذي يراه نتنياهو هو توسيع الحرب أم استغلالها إلى أبعد حد، فإنه سيفشل فشلًا ذريعًا في رأب الصدع في مجتمعٍ وصل به الانقسام إلى مرحلة اللاعودة، وهو ما يدعو بالفعل إلى التفكير مليًا في مرحلة ما بعد تحول هذا الانقسام إلى فوضى داخلية إسرائيلية تكاد تكون مؤكدة.
